سورة الحج - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}.
المنسك: اسم مكان، يؤدّى فيه النسك.. والنّسك: هو ما افترض اللّه على عباده من قربات يتقربون بها إليه.
والمخبتين: المطيعين، المطمئنين، الذين يؤدون أوامر اللّه في رضا واطمئنان.
والمعنى: أن اللّه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة {مَنْسَكاً} أي معلما من معالم دينهم، يدعون فيه إلى التقرب إلى اللّه بالذبائح، وذكر اسمه عليها عند ذبحها، ليذكروا بذلك فضله عليهم، فيما رزقهم من بهيمة الأنعام، ينتفعون بها في وجوه كثيرة.. كما يقول سبحانه: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً} [5- 8: النحل].
وفى قوله تعالى: {فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} إشارة إلى أن المناسك، والشعائر، والعبادات التي تعبّد اللّه بها عباده على لسان رسله- وإن اختلفت صورا وأشكالا- هى من دين اللّه، وهى طريق عباده إلى طاعته ورضاه.. وأن هذا الاختلاف في صورها وأشكالها، لا يجعل منها سببا إلى الاختلاف بين المؤمنين باللّه.. فكلهم يعبدون إلها واحدا، ومن شأنهم، أن يكونوا أمة واحدة.
وقوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} هو دعوة للمؤمنين أن يسلموا وجوههم للّه، وأن ينقادوا له، ثم هو دعوة لأهل الكتاب أن يدخلوا في دين اللّه، وهو الإسلام، إن كانوا مؤمنين باللّه حقا.. فما الإسلام إلا دين اللّه، الذي اجتمع فيه ما تفرق منه في الأمم السابقة.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} هو استدعاء، وإغراء للذين لم يمتثلوا بعد هذا الأمر- أن يسلموا للّه وجوههم، وأن يدخلوا في دينه، ليكونوا ممن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة.
قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
هو صفة للمخبتين، الذين وعدهم اللّه بالبشريات المسعدة، في الدنيا والآخرة.
فمن صفات هؤلاء المخبتين، أنهم إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم لذكره، وحضرتهم حال من الرهبة والخشية لجلال اللّه وعظمته.
ثم إنهم لإيمانهم باللّه، هذا الايمان الذي يملا قلوبهم جلالا وخشية- صابرون على ما أصابهم ويصيبهم من بلاء، فإن الجزع ليس من صفات المؤمنين، لأن الجزع لا يجىء إلا من شعور بأن ليس وراء الإنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ضرّه.. أما المؤمن، فإنه إذا ابتلى بأعظم ابتلاء، لا يجزع، ولا يكرب، ولا يخور، بل يحتمل صابرا، ويثبت للمحنة، وهو على طمع في رحمة اللّه أن ينكشف ضره، ويدفع بلواه.. ثم إن هؤلاء المخبتين يقيمون الصلاة، ويؤدونها في خشوع وخضوع، إذ هى التي تصل المؤمن بربه، وتعمر قلبه بالإيمان به.. ومن هنا كان الصبر هو الثمرة الطيبة التي تثمرها الصلاة، كما يقول سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}.
وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوب لها، حيث لا تؤدّى كاملة إلا مع الصبر، فإذا أدّيت كانت هى نفسها رصيدا كبيرا تزيد به حصيلة الصبر في كيان المؤمن.. ثم إن هؤلاء المخبتين لا يمسكون رزق اللّه الذي رزقهم، في أيديهم، ولا يحبسونه على أنفسهم، بل ينفقون منه في وجوه البرّ، ويرزقون عباد اللّه مما رزقهم اللّه.. إذ أنهم ينفقون ما في أيديهم، وهم على رجاء من أن اللّه يرزقهم، ويكفل لهم ما يكفل للطير والدواب من رزق.. {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ}.
قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
البدن: جمع بدنة، وهى الناقة، وسميت بدنة لعظمها وضخامتها.
والصّوافّ: جمع صافّة، وصافّ.. والمراد به السكون، ومنه قوله تعالى {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي صفّت أجنحتها، وسكنت، وذلك حين تفرد أجنحتها في الجو، وتتوقف عليلا عن الطيران.
وجبت جنوبها: أي سقطت على الأرض.
القانع: من لا يسأل.. والمعتر: من يتعرض للسؤال مستجديا.
والمعنى: أن هذه البدن، أي الإبل، جعلها اللّه من شعائره، حيث تساق هديا إلى بيته الحرام، وجعل فيها خيرا للناس، بما ينتفعون به منها، في حمل الأمتعة، وركوبها، والانتقال بها، والانتفاع بألبانها وأوبارها، ولحومها.
وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ} أي إذا أردتم نحرها، فاذكروا اسم اللّه عليها، قبل أن نحرها، ثم ليكن ذبحها وهى صوافّ، أي في حال وقوفها، وثباتها، وصفّ قوائمها.. وذلك أن الإبل تنحر وهى واقفة. على خلاف غيرها من الحيوان.
وقوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي أنها إذا نزفت دماؤها، وسقطت على الأرض، جثّة هامدة- أصبحت صالحة للأكل.. فكلوا منها، وأطعموا القانع، الذي لا يسأل، والمعترّ الذي يسأل، فهى نعمة من نعم اللّه، جعلها اللّه في أيديكم، وسخرها لكم، فاشكروا له، بهذا البذل، الذي تبذلونه من لحومها، لمن ترون أنه محتاج، ولو لم يسأل..، وكذلك غير المحتاج من أهل وأصدقاء.
قوله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}.
أي أن هذه البدن التي تقدمونها قربانا، و، تطعمون منها وتطعمون، هى في الواقع نفع خالص لكم.. فليس للّه سبحانه وتعالى- وهى من عطاياه- شيء منها، وليس في تقديمها قربانا للّه، وإطعام من تطعمون منها- ما يصل إلى اللّه منه شىء.. فهذا كل شيء منها هو بين أيديكم: لحمها قد أكلتموه، ودمها قد أريق على الأرض.. ومع هذا فهى قربان لكم، تتقربون به إلى اللّه، وتثابون عليه.
وقوله تعالى: {وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} إشارة إلى أنه ليس المقصود من هذه الهدايا ذبحها، وأكل لحمها.. وإنما المراد أولا وبالذات، هو امتثالكم لأمر اللّه، وإمضاء دعوته، فيما يدعوكم إليه، من التضحية بشىء عزيز عليكم، حبيب إلى نفوسكم، وبهذا تحسبون في أهل التقوى من عباد اللّه.. وهذا هو الذي يناله اللّه منكم، ويتقبله من أعمالكم.. إنه التعبّد للّه، والولاء له، والاستجابة لأمره.
وفى التعبير عن تقبّل اللّه سبحانه وتعالى للطاعات من عباده بالنيل تفضّل من اللّه سبحانه وتعالى على عباده المتقين، وإحسان مضاعف منه إليهم، إذ جعل طاعتهم، وتعبدهم له- إحسانا منهم إليه، سبحانه وتعالى.. وهذا شبيه بقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [245: البقرة].
فهو سبحانه وتعالى- فضلا وكرما وإحسانا منه- يعطى، ويقترض ممن أعطاه!
ألا خسىء وخسر الذين يضنون بما في أيديهم عن البذل والعطاء، من عطاء اللّه، في سبيل اللّه..!


{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تعظيم شعائر اللّه ومناسكه، وإلى ذكر اسم اللّه على بهيمة الأنعام، وإلى إطعام القانع والمعترّ منها.
وهذا لا يقوم على تعظيمه والوفاء به، إلّا أهل الإيمان والتقوى- فناسب هذا أن يذكر ما للمؤمنين المتقين عند اللّه من فضل وإحسان، وأنهم جند اللّه، يدافع اللّه عنهم، وينصرهم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
إشارة إلى أن المؤمنين معرضون للابتلاء من أعداء اللّه، الذين يكيدون لهم، ويريدونهم على أن يكونوا معهم، وألا يخرجوا عن طريقهم. ولكن اللّه سبحانه وتعالى {يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه.. وهذا أشبه بالدروع الحصينة التي تتكسر عليها ضربات أهل الباطل والكفر.. إنها أمداد من اللّه، وأدوات من أدوات الدفاع.. ثم ينتهى الأمر بانحسار جبهة الضلال، واندحار أهله، وغلبة الإيمان وانتصار المؤمنين: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة].
وأنت ترى. أن دفاع اللّه عن المؤمنين، إنما يكون والمؤمنون في مواطن الإيمان، وفى ميدان المعركة.
وهذا يعنى أن المؤمن الذي يستسلم لعدوّ اللّه وعدوّ المؤمنين، لا يكون في ميدان المعركة، ومن ثمّ فلا يكون من اللّه دفاع عنه، إذ لا معركة قائمة بينه وبين عدوّه.
ومن هنا، كان واجبا على المؤمن الذي يطمع في دفاع اللّه عنه، ألا يلقى السلاح.
من يده، وألا يفرّ من الميدان.. سواء أكان ذلك ميدان حرب، أو ميدان رأى، ودعوة إلى اللّه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} هو تهديد للكافرين، الذين خانوا عهد اللّه وميثاقه الذي واثقهم به وهم في أصلاب آبائهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [172: الأعراف].
ثم إنهم بعد هذا قد كفروا بما جاءهم من آيات اللّه على يد رسله، وكذبوا بها.
فهم لهذا في معرض السخط من اللّه.. {لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [174: البقرة].
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
أذن لهم: أي أبيح لهم القتال، دفاعا عن النفس.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى، قد أذن المسلمين الذين بدأهم أعداؤهم وأعداء اللّه بالقتال- قد أذن لهم أن يقاتلوا، وأن يدفعوا يد البغي والعدوان عنهم.
فهذا قتال مشروع، بل إنه واجب، إذ كان فيه تقليم لأظفر الطغيان وخضد لشوكة الطغاة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [179: البقرة] ويقول: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [194: البقرة].
أما الاستسلام للبغى، والسكوت على الظلم، فهو تمكين للشرّ، وتدعيم لبنائه، وإطلاق ليده، يضرب بها كيف يشاء في مواقع الحق، ومواطن الخير.
إن البغي، والظلم، والعدوان.. كلها وجوه منكرة من وجوه المنكر، ومطلوب من كل مؤمن باللّه أن يدفع المنكر بكل ما ملكت يده، ووسع جهده.
وقتال المؤمنين، والعدوان عليهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، هو أنكر المنكر، وإنه لفرض على كل مؤمن أن يردّ هذا المنكر، ويخمد أنفاسه، ويقدم نفسه قربانا للّه في سبيل الدفاع عن دين اللّه، وعن ينابيع الرحمة والخير المتدفقة منه.
وفى قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} هو تعليل للإذن الذي أذن فيه للمؤمنين بالقتال.
والمعنى: أنه قد أذن اللّه للذين يقاتلون أن يقاتلوا من يقاتلهم، بسبب أنهم ظلموا بالتعدّى عليهم، وبمبادأتهم بالقتال.. فهو قتال دفاع منهم، لا قتال هجوم.. ولهذا، فإنهم مؤيّدون بنصر اللّه، {وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
إذ في يده سبحانه القوى كلها، وإنه لا غالب للّه.. وفى هذا تحريض للمظلوم- وإن كان ضعيفا- أن ينتصف ممن ظلمه، فإنه على وعد بنصر اللّه له.
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
هو بيان الحال هؤلاء الذين أذن اللّه لهم أن يقاتلوا.. ف قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} هو بدل من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} فهؤلاء الذين يقاتلون، وأذن لهم في قتال مقاتليهم- هم أولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا {بِغَيْرِ حَقٍّ}.
فإنهم لم يجنوا على أحد، ولم يكرهوا أحدا على أمر، وإنما كل جنايتهم- إن كانت هناك جناية- هى إيمانهم باللّه، وقولهم ربنا اللّه الواحد، الذي لا شريك له.. فهل في هذا عدوان على أحد، أو ضرر يعود على أحد؟. ولكنّ أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقول فاسدة، فيرون النور ظلاما، والخير شرا، والإحسان إساءة.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}.
هو إشارة إلى هذا الصدام الذي يقوم بين أهل الشر والضلال، وأهل الخير والإيمان، وأنه لو لا أهل الخير والإيمان، ووقوفهم في وجه الضالين والباغين- لما قام للّه دين على هذه الأرض، ولغلب الشر الضلال، ولأنى على كل صالحة في هذه الدنيا، ولخربت بيوت العبادة التي أقامها المؤمنون لعبادة اللّه من {صَوامِعُ} وهى بيوت عبادة الرهبان من النصارى، {وَبِيَعٌ} وهى بيوت عبادة النصارى عامة، {وَصَلَواتٌ} وهى بيوت عبادة اليهود، {وَمَساجِدُ} وهى بيوت عبادة المسلمين.
ومن أجل هذا، فقد أقام اللّه سبحانه وتعالى، في كل ملة، وفى كل أمّة، جماعة مؤمنة، تقيم شرع اللّه، وتحيى شعائره، وتعمر بيوته، وتحتمل في سبيل هذا ما تحتمل من بلاء، في دفع الظالمين، وردع الباغين.
فهذا الصّدام القائم بين الهدى والضلال، وبين المهتدين والضّالّين، هو سنّة من سنن اللّه، التي أقام حياة الناس عليها، والتي كان من ثمارها أن قامت بيوت اللّه، وعمرت بالمؤمنين الذاكرين اللّه كثيرا فيها.
وفى هذا دعوة المؤمنين- في صدر الدعوة الإسلامية خاصة- أن يكونوا جند اللّه في هذه الأرض، والحماة المدافعين عن دينه، والمقيمين مساجده، والمعمّرين ساحاتها بذكر اللّه فيها.
وفى هذا أيضا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين مساجد، وأن هذه المساجد ستعمر بالمصلين والذاكرين اللّه كثيرا فيها.. وهو وعد كريم من ربّ كريم، لجماعة المؤمنين يومئذ.. وقد تحقق هذا الوعد- وكان لا بد أن يتحقق- فملأت المساجد آفاق الأرض، وامتلأت بالمصلين، واهتزت جنباتها بالذاكرين.
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} هو وعد منه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، الذين نصروا اللّه، وجاهدوا في سبيله.. إنهم نصروا اللّه إذ نصروا دينه، فكان حقّا على اللّه أن ينصرهم، كما يقول سبحانه: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47: الروم].
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} هو توكيد، بعد توكيد لهذا الوعد الذي وعده اللّه المؤمنين بالنصر، إذا هم نصروا اللّه، ودافعوا عن دين اللّه.
وليس وعد اللّه في حاجة إلى توكيد، عند المؤمنين باللّه، ولكنه مبالغة في تطمين القلوب، وتثبيت الأقدام، في تلك الساعات التي تزيغ فيها الأبصار، وتضطرب النفوس، حين تلتقى جماعة المؤمنين، في أعدادها القليلة، بحشود المشركين، في جحافلها الجرارة! قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
يمكن أن يكون الاسم الموصول: {الَّذِينَ} بدلا من الاسم الموصول في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كما يمكن أن يكون بدلا من الاسم الموصول {الَّذِينَ} في قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
وعلى أىّ فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، هم الذين وعدوا بالنصر في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}.
فالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم المهاجرون- هم الذين وعدوا بالنصر، لأنهم نصروا اللّه، فخرجوا من ديارهم وأموالهم، مهاجرين بدينهم الذي هو كل حظهم من هذه الدنيا، والذي باعوا من أجله أنفسهم وأموالهم وديارهم وأوطانهم.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} هو عرض للصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم اللّه، ويمكّن لهم في الأرض، وتكون لهم القوة والغلب.
إنهم- مع ما ملكت أيديهم من قوة، وما مكّن اللّه سبحانه وتعالى لهم في الأرض من سلطان- لن يكونوا على شاكلة هؤلاء الضالّين الذين كانت إلى أيديهم القوة والسلطان، فتسلطوا على عباد اللّه، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
إن هؤلاء المؤمنين، حين يمكّن اللّه لهم في الأرض، سيكونون مصابيح هدى، وينابيع رحمة، للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق، والعدل، وما يغرسون في آفاقها من مغارس الخير والإحسان.. إنهم يقيمون الصلاة، ليستمدوا منها أمداد الهدى من اللّه.. ويؤتون الزكاة، فيكشفون بها الضرّ عن عباد اللّه.. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم طرقهم مستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم.
وقد صدق اللّه وعده، ومكن سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض، فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس.
وكانوا كما وصفهم سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران].
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
إشارة إلى نفاد قدرة اللّه، وأنها بالغة الغاية التي قدّرها اللّه لها في هذا المقام، وهى نصر المؤمنين، وإعزازهم، وخذلان المشركين والضالين، وخزيهم.
فعاقبة الأمور، هى ثمراتها الطيبة، إذ كانت الأمور كلها تجرى بأمر اللّه، وتتحرك بمشيئته.. فإذا بلغت غايتها كانت خيرا، وكانت كمالا، وحسنا.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [128: الأعراف] وقوله سبحانه: {وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى} [132: طه].


{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}.
فى هذه الآيات مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء جميل من ربّ العالمين، لما يلقى من قومه من تكذيب، وسفه، وتطاول.. فتلك هى سبيل الأنبياء مع أقوامهم.. {كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ} [44: المؤمنون].. وأنت أيها النبي لست بمعزل عن هذا، ولا قومك ببدع بين الأقوام.. إنه حق وباطل، وهدى وضلال، وإنه لا بد من صدام بين أصحاب الحق وأهل الباطل، وبين دعاة الهدى، وأئمة الضلال.. {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [35: الأحقاف].
وفى هذه الآيات:
أوّلا: جاء ذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، مضافين إلى أنبيائهم، على حين جاء قوم هود، وقوم صالح، وأصحاب مدين، وهم عاد وثمود، وقوم شعيب مجردين من هذه الإضافة.. فما وجه هذا؟.
الجواب- واللّه أعلم- أنه تنويع في النظم، وذلك بتوزيع الكلمات ذات النغم الواحد مثل {قوم} هذا التوزيع غير المتتابع، حتى لا يثقل على الأذن، ولا يثير الملل والسأم، فكان هذا التوزيع الذي ترى وتسمع تساوق لحنه وروعة نغمه.. ولو ذهبت تعيم النظم على أسلوب واحد، فتذكر الأقوام مضافين إلى أنبيائهم، أو تذكرهم بأعيانهم مجردين من تلك الإضافة، لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان، وتستثقله الآذان.
وثانيا: جاء الفعل {كذبت} مؤنثا مع أن فاعله مذكر وهو {قوم نوح}.
وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل مذكرا هكذا: كذب فما سرّ هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- أن القوم المكذبين كانوا على طبيعة واحدة من الضلال والعمى، فكأنهم- بهذا كتلة متضخمة من الظلام، لا يخرج منها إلا ما هو شر، وضرّ.. فكأنّ الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد، أو هذه القطعة من الظلام، والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن الفعل كذب مسلط على هؤلاء الأقوام الذين ذكرتهم الآية، قوم نوح، وعاد، وثمود... وهم بهذا أمة واحدة، في الضلال، وإن كانوا أمما في الأمكنة والأزمنة.
وثالثا: جاء قوله تعالى: {وَكُذِّبَ مُوسى} مخالفا للنظم، الذي كان ظاهره يقضى بأن يجىء هكذا: {وكذب قوم موسى} معطوفا على قوله تعالى {وَأَصْحابُ مَدْيَنَ}.
فما وجه هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- أن قوم موسى، وهم بنو إسرائيل لم يكذبوه، وإنما الذي كذبه هو فرعون وقوم فرعون، وهم ليسوا قوم موسى.
أما السرّ في أنه لم يذكر فرعون وقومه في الأمم والأقوام المكذبة بالرسل فذلك- واللّه أعلم- لأن موسى لم يكن من قوم فرعون، ورسل اللّه جميعا من أقوامهم.. فلم يكن موسى مبعوثا إلى فرعون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس شريعة، وإنما كانت رسالته إلى فرعون أن يدعوه إلى إطلاق بنى إسرائيل من يده كما يقول سبحانه لموسى وما يدعون فرعون إليه: {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [47: طه] هذه هى رسالة موسى إلى فرعون.
أما دعوته فرعون إلى الإيمان باللّه، فهى من مستلزمات دعوته إلى إطلاق بنى إسرائيل، تلك الدعوة المأمور بها من اللّه.. فإذا لم يؤمن فرعون باللّه، فلن يستجيب لهذه الدعوة.
وفى قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.}.
هو تهديد للمشركين، الذين تصدوا للنبىّ وكذبوه، وآذوه.. فإن يكن اللّه قد أملى لهم، أي أمهلهم، ولم يعجل لهم العذاب فإنه سبحانه قد أملى للكافرين قبلهم.. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى ما أخذ اللّه به الكافرين المكذبين برسل اللّه.. {فمنهم من أغرقه اللّه، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أرسل عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة..}.
والنكير: الإنكار المنكر.. ونكير اللّه هو إنكاره على الكافرين كفرهم، وليس وراء هذا الإنكار، إلا البلاء المهين، والعذاب الأليم.
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ..}.
هو بيان لنكير اللّه سبحانه وتعالى، ووقعات بأسه بالظالمين والضالين.
فكثير من قرى الظالمين قد أهلكها اللّه، وأنزل بها عذابه، فوقع عليها وهى قائمة على ما كانت عليه من ظلم وطغيان.. وهذه القرى قد خوت على عروشها، أي خرّت، وسقطت على عروشها، أي سقفها.. كما يخرّ الإنسان على وجهه.
فتعطلت آبارها وردمت، لأنها لا تجد الواردين إليها، وخربت القصور المشيدة، بعد عمرانها، لأنها لا تجد من يسكنها.
لقد ذهب الجميع، وخلّفوا وراءهم هذا الخراب الموحش المخيف!.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.}.
الاستفهام هنا، تقريع، ونخس لهؤلاء المشركين من قريش، الذين تصدّوا لرسول اللّه، وكذّبوه وآذوه، دون أن ينظروا في عاقبة أمرهم، ودون أن يلتفتوا إلى ما وراء هذا المنكر الذي هم فيه.. ولو نظروا فيما حولهم لعرفوا أنهم في معرض الهلاك، إذا هم لم يرجعوا عن هذا الضلال الذي يركبونه، فهم ليسوا أحسن موقفا من أولئك الأقوام الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فأهلكهم اللّه.
وفى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} هو إشارة إلى أن السير في الأرض، لا يفيد منه صاحبه شيئا إلا إذا كان معه قلب متفتّح، يتلقّى المؤثّرات الخارجية، ويتأثّر بها، ويتفاعل معها.. فإن لم يكن له هذا القلب اليقظ المتفتّح، فليفتح أذنه لدعوة الداعي، ونذير المنذر.
فإن الأعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تقوم مقام عينيه، وتصل ما بينه وبين الوجود.
أما هؤلاء القوم الضالون، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، ولم تكن لهم آذان يسمعون بها.. لقد عطلوا حواسهم.. فهم صمّ بكم عمى لا يعقلون.
ولم يذكر القرآن هنا أبصارهم، ولم يستدعها كما استدعى قلوبهم وآذانهم.. ولكن أشار إليها ضمنا، في قوله تعالى: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
فكأنه قال: أما أبصارهم فلا وزن لها إذا لم تكن هناك القلوب التي تتلقى عنها، وتعى ما يجىء إليها منها.
فأبصارهم معهم، وهى سليمة لا عيب فيها، ولكنهم مع هذا هم عمى، لأن العمى ليس عمى الأبصار، ولكنه عمى القلوب التي في الصدور.
وفى قوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} توكيد للقلوب، وأنها هى المرادة هنا، على سبيل الحقيقة لا المجاز، وذلك لئلا ينصرف مفهوم القلوب إلى العقول، كما يحدث ذلك كثيرا.
وقد وصفت القلوب هنا بأنها تعقل وتدرك.. فكان تحديد مكانها أمرا لازما، حتى يتقرر أنها المقصودة بذاتها، وليست العقول.
واختصاص القلب بالذكر، والنظر إليه على أنه مركز الإدراك والإلهام، في هذا المقام، لأن الدّين عقيدة، والعقيدة أساسها الحبّ والامتثال والولاء، والقلب هو منبع هذه المشاعر، ومصدر تلك العواطف.
وحقّا، إن للعقل مكانه البارز في إدراك الحقائق الدينية، وتصوّرها، وإنه بغير هذا الإدراك وذلك التصور لا تقع هذه الحقائق من القلب موقع الحبّ، والتقدير، والتقديس.. ولكن القرآن الكريم ينظر إلى القلب، لا باعتباره مصدر العواطف والمشاعر وحسب، بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية، كعضو عامل في كيان الإنسان.. فهو- من هذه الجهة- مركز الحياة في الإنسان، بل وفى كل عالم الحيوان- حيث يمدّ الجسم كلّه بالدّم المتدفق منه في العروق والشرايين، ولو توقف لحظات لمات الكائن الحىّ، وأصبح جثة هامدة.. ومن هنا كان نبض القلب هو الإشارة الدالة على وجود الحياة في الإنسان.. وحين يسكت النبض تتوقف الحياة، ويغيض مجراها، وتجفّ ينابيعها.
وإذ كان القلب بهذه المثابة، فإنه هو صاحب الشأن الأول في الإنسان، بحكم آثاره الظاهرة فيه.. إنه يعمل دائما في حال اليقظة والنوم.
وأما العقل، وإن عرفت آثاره، فإنه لا يعرف سرّه، ولو عرف سرّه، فإنه لا يخرج عن أن يكون ربيب القلب، وغذىّ ماء الحياة الذي يمدّه به، أيّا كان موضعه في كيان الإنسان، وأيّا كان مستقرّه.
فإذا أضاف القرآن الكريم إلى القلب، علما، ومعرفة، وحكمة، وإيمانا، فإنّما ذلك لأنه سلطان الجسد كلّه، وإلى صلاحه أو فساده يعود صلاح أعضاء الإنسان وفسادها، وسلامة حواسه أو اعتلالها.. وليس العقل إلا حاسّة خفية- من حواس الإنسان، ترتبط سلامته بسلامة الجسد، كما ترتبط سلامة الجسد بسلامة القلب، وفى المثل: العقل السليم في الجسم السليم.
وقد كشف عن هذا الرسول الكريم في قوله: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب».
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} [46: الحج] لا على أن القلب هو مصدر الإدراك المباشر، وإنما هو مصدر للعقل الذي يعقل ويدرك.. فلو كان القلب سليما معافى من العلل لسلم العقل، ثم لكان إدراكه للأمور سليما، وتقديره لها صحيحا.. وهذا أبلغ في الكشف عن داء الغفلة المستولى على القوم، وأنه داء ينبع من المنبع الأصلى، وهو القلب، وليس داء عارضا أصاب حاسة من الحواس.
إنه داء يسرى في الجسد كله.
وسواء إذا كان القلب هو موطن المشاعر والمدركات، أم كان عضوا من أعضاء الجسد أو جارحة من جوارحه، فإنه من حيث مكانه في الجسد، ووظيفته العضوية فيه- يعدّ مركز الحياة في الكائن الحىّ، تتأثر به كل خلية من خلايا الجسد، كما أنه يتأثر بكل خلية في الجسد.. ومن هنا صحّ أن يضاف إليه كلّ ما للجوارح من آثار، وما لكل عضو من قوى حسّية أو معنوية.
فالعين وما فيها من قوى الإبصار، هى من جنود القلب.. إذ هى غصن من أغصان الشجرة التي يقوم على تغذيتها، وإمدادها بالحياة.. وكذلك الشأن في الأذن، واليد، واللسان.. وكذلك الحال في المخ الذي قيل إنه هو موطن الشعور والإدراك!! إن الإنسان، هو في الواقع هذا القلب، لا من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من اللحم والدّم.. ولكن من حيث هو مستودع هذه الحياة المتدفقة منه، وهى الدّم الذي يسرى في العروق والشرايين، والذي يملأ الكيان الجسدى كلّه مع كل خفقة من خفقاته، قبضا وانبساطا.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الضالين الذين عموا عن الحقّ، وضلوا عن سواء السبيل، ثم هم مع- هذا الموقف المكابر المتحدّى- يستعجلون العذاب الذي أنذروا به إنهم أعرضوا عن الإيمان باللّه، وكذبوا بما جاءهم به رسول اللّه، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [13: فصلت].. وفى هذا الرد إنكار عليهم، وتسفيه لهم، إذ يطلبون الهلاك، ويستعجلون البلاء، على حين يصرفون وجوههم عن هذا الخير الذي بين أيديهم، ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة.. وهذا لا يكون من إنسان له مسكة من العقل والإدراك.
وفى قوله تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} تهديد لهم، بالعذاب الذي أنذروا به، وأنه واقع بهم.. فهذا وعد من اللّه، ولن يخلف اللّه وعده.. لأن خلف الوعد إنما يكون عن عجز عن الوفاء به.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} هو تأكيد لوقوع وعد اللّه، وإنجازه وأنهم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه، فإن للّه سبحانه وتعالى تقديرا غير تقديرهم، وحسابا غير حسابهم، وأنه سبحانه لا يقيس الزمن بمقياس الناس، فالناس يتعاملون مع أشياء محدودة، في زمن محدود، على حين أن اللّه سبحانه يدبر الوجود كله، في زمن مطلق، وبقدرة مطلقة.
وعلى هذا فإنه إذا لم يقع بهم العذاب عاجلا فهو واقع آجلا، وأنهم إذا لم يؤخذوا به في الدنيا، أخذوا به في الآخرة.. فهم أبدا في قبضة الزمن الذي هو في قبضة اللّه.. ولن يفلتوا أبدا.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
هو بيان شارح لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
والمعنى أن هؤلاء المشركين إن كانوا يستعجلون العذاب، ويشكون في وقوعه حين أبطأ عليهم، ولم يقع بهم، فما ذلك إلّا لأن لهم حسابا، وأن للّه سبحانه وتعالى حسابا، وأنهم إذا كانوا قد أملى لهم ولم يؤخذوا بظلمهم إلى يومهم هذا الذي هم فيه- فليس هذا لأنهم ممتنعون عن اللّه بقوة أو جاه أو سلطان، وإنما لأن ذلك هو حكم اللّه في عباده، وسنته في الظالمين منهم.. لا يعجل لهم العذاب، ولا يبادرهم به، بل يمهلهم ويملى لهم، حتى يراجعوا أنفسهم، ويتدبروا أمرهم، وهذا من رحمة اللّه بهم وفضله عليهم، كما يقول سبحانه: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [61: النحل] وبين يدى هؤلاء المشركين الضالين شاهد ناطق بهذا فما أكثر القرى الظالمة التي أمهلها اللّه.. ثم أخذها.. بل إن هؤلاء المشركين هم شاهد حىّ لهذا.. فهم على ما هم فيه من ظلم ما زالوا في عافية من أمرهم، لم يأخذهم اللّه بعذابه.. وتلك فرصتهم السانحة للخلاص من بأس اللّه، الذي لا يردّ.. إذا حان حينه بهم.
وفى قوله تعالى: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم في هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى اللّه، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن في غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [26: الزمر].

1 | 2 | 3 | 4 | 5